الفصل الأول :
الجزائر من الاحتلال للثورة
كانت الجزائر جزءاً من الإمبراطورية العثمانية من عام 1518 م , ولكن سلطة الدايات جعلت من البلاد دولة مستقلة يكاد يكون تماماً حيث كانت لهم حق عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية دون الرجوع إلى السلطان العثماني . كما كان الداي ينتخب ويعين ويباشر سلطانه دون الرجوع إلى السلطان العثماني , وإيرادات البلاد ـ وإن كانت كلها من عمليات الجهاد البحري ـ تصرف على مصارف الحكم وإن كانت غير منظمة , ولم تكن ترسل شيئاً من الأموال إلى السلطان . "[1]" ورغم هذا الاستقلال فإن الجزائر شهدت خلال القرن الثامن عشر انهياراً في الاقتصاد بسبب كساد الحركة التجارية ومقاومة الدول الأوربية "للقرصنة" "*" الجزائرية , كما شهدت فوضى سياسية بسبب النزاع بين الدايات بعضهم وبعض ومع رجال الجيش ومع "القراصنة" حتى فقدت البلاد تقدمها واضطرب الأمن فيها وأصبحت بفضل المعاهدات مع الدول الأوربية مجالاً للنفوذ الأوربي على حساب استقلال البلاد وعلى حساب مصلحة أهلها . "[2]" وقد تعرضت الجزائر لمؤامرات فرنسا قبل الغزو بوقت طويل إذ اعتبر نابليون الجزائر سوقاً خارجية ضرورية لتطور الصناعة الفرنسية , وكان يضيفها دائماً إلى قائمة ممتلكاته المقبلة عندما تثار مسألة تجزئة الإمبراطورية العثمانية ."[3]" وكانت تلك ظروف الجزائر التي هيأت للغزو الفرنسي الفرصة لتحقيق أهدافها , أما ظروف فرنسا نفسها فقد كانت تتمثل في اضطراب الأحوال الداخلية منذ تولي شارل العاشر العرش عام 1824م , نتيجة لما تميز به هذا الملك من روح رجعية حتى أحس بسخط الشعب عليه وعدم محبته , وخاصة وأن الشعب الفرنسي كان ينظر إليه على أنه أتى إلى الحكم بتأييد من الأجانب , وقد كان اختيار الملك " لبولينياك " رئيساً لوزارته رغم سخط الناس عليه لموقفه الرجعي من الدستور والحياة النيابية دافعاً لمزيد من تبرم الشعب الفرنسي من الحكم ومن ثم عمل الحكم في فرنسا على إحراز نصراً في الخارج لتغطية الموقف الداخلي ؛ وقدر أن المغامرة الحربية في الجزائر سوف تزيد من الشعور الوطني عند الفرنسيين وتعطل انفجار الثورة ."[4]" هذا على الرغم من أنه كانت لكبار الفرنسيين رغبة شديدة في امتلاك أراضي جديدة تدر عليها دخلاً يعوضهم عما فقدوه أثناء الثورة الفرنسية وحكم نابليون , إلى جانب رغبة الحكومة الفرنسية في تعويض ما فقدته فرنسا أثناء حروب الثورة ونابليون وفي معاهدة باريس 1815م , وهي معظم أجزاء إمبراطوريتها الأولى التي تنازلت لإنجلترا عن معظمها إلى جانب استمرار الخلاف دايات الجزائر ومعظم الدول الأوربية وخاصة انجلترا وفرنسا حول قضيتي الجهاد البحري والرق ,فالدول الأوربية تضغط على الجزائر من أجل أن يصدر إعلان رسمي في الجزائر بإلغاء الرق , ومن أن توقف الجزائر عمليات الجهاد البحري , ولكن دايات الجزائر تمسكوا بموقفهم بامتلاك الرقيق , وممارسة عمليات الجهاد البحري في البحر المتوسط ولم ترهبهم تهديدات الأساطيل الحربية الإنجليزية وغيرها , بل زاد الدايات من عدائهم لرعايا انجلترا وغيرها من الدول الحليفة لها كأسبانيا والبرتغال . "[5]" وكانت العلاقات بين الجزائر وفرنسا قبل عام 1826م لا يشوبها الجو العدائى الذي كان بين الجزائر وانجلترا . وكانت الجزائر تتزعم الجناح الإسلامي في شمال أفريقيا , وفرنسا تتزعم الجناح المسيحي الكاثوليكي في أوربا , والصدام قائم ومستمر بين الجناحين في البحر المتوسط كنوع من الحروب الصليبية . وكانت ذكرى فرنسا النابليونية المعادية لأوربا قد أخذت تنمحي بالتدريج , فلما جاء دورها لتسوي مشاكلها بطريقتها مع الجزائر لم تصطدم بمعارضة فعالة من دول أوربا , هذا على الرغم من أن الرأي العام الفرنسي كان معادياً للتوسع الاستعماري لأنه كان يرى فيه بعثرة لجهود الأمة التي يجب أن تتركز لمحو العار الذي لحقها بسبب هزيمة في أوربا . "[6]" ووجدت فرنسا العذر المنتظر فيما سمي ( ضربة المروحة ) وذلك عندما أهان القنصل الفرنسي " ببييردفال " الذي كان يعتبر حسب تعبير أحد المؤرخين الفرنسيين كما ورد في كتاب لوتسكي : ( تاريخ الأقطار العربية الحديث ) ... أن هذا القنصل أهان " الداي " في صبيحة يوم قائظ هو 29 ابريل 1827م إهانة شديدة , فضربه الداي بمرحة كان يهوي بها ويطرد عن نفسه الذباب . واعتبرت فرنسا ( ضربة المروحة ) مبرراً كافياً لغزو الجزائر , فأصدرت حكومة " بوليفيباك " في عهد الملك شارل العاشر أوامرها بنزول جيش فرنسي من 37 ألف مقاتل يوم 14 يونيو 1830م على شاطئ خليج سيدي فرج الواقع على بعد 23 كيلومتراً إلى غرب الجزائر تحت قيادة الجنرال " دي بورمون " ."[7]" وعندما وقعت الحرب العالمية الأولى سعت بعض الزعامات الجزائرية مثل الأمير خالد بن الأمير عبد القادر الجزائري .. إلى الإفادة من المبادئ الأربعة عشرة للرئيس الأمريكي " ويلسون " , وخاصة مبدأ ( حق تقرير المصير ) .. ولكن محاولته هذه فشلت كما فشلت مثيلاتها في مصر وتونس . "[8]" وبعد الحرب العالمية الثانية استمر النضال السياسي الذي أدى القناعة بحتمية خوض حرب التحرير الشعبية طريقاً وحيداً لاستقلال كامل غير مشروط . فقد أدرك الوطنيون حقيقة تلاعب السلطات الفرنسية , وأدركوا بعد القمع الذي تعرضوا له سنة 1945م الفرق الذي يفصل بين مطالبهم ومعارضة فرنسا لأية فكرة تدعو للانفصال من جهة لأخرى . "[9]" ومن الجدير بالذكر أن الحركة الوطنية الجزائرية عاشت حالة المد والجزر كلما سنحت الفرصة إلا وصدعت بنضالها المكبوت والمكبل بقيود المستعمر , وكلما كان الاضطهاد إلا وعملت في الخفاء والسر حتى لا تثير نقمة الناقمين عليها , فتجر الويلات وتنكسر شوكتها . ولذلك فلا غرابه ألا تهدأ الحركة في نفوس قد أبكتها العنصرية وذوبت روح اسلاميتها مسيحية بريئة كل البراءة من متدينيها ... فرد الفعل الوطني في الجزائر مؤيده برد فعل ديني ينادي بوجوب حفظ " الضروريات " من العدو وهي ( الدين , والنفس , والعقل , والنسل , والمال ) ."[10]" وظل الإسلام بكل تقاليده يلعب دوراً رئيسياً في حشد الشعب الجزائري طوال سنوات الاحتلال المظلمة , لذا كان ضرورياً أن يقف أحمد بن بيلا بعد الثورة معلناً أن الإسلام لا يتناقض مع الاشتراكية العلمية , فهو جزء من الواقع الجزائري الذي لا يمكن للاشتراكية في الجزائر أن تتجاهله , فنحن في حاجة لبناء الاشتراكية الثورية متلائمة مع التقاليد العربية والإسلامية . "[11]" كانت هذه هي كلمات أحد قادة الثورة الحديثة لشعب الجزائر الذين واصلوا نضال " أمير المؤمنين " الأمير عبد القادر الجزائري , بعد مائة عام تقريباً من استقراره في دمشق . ولم تكن هذه السنوات الطويلة خالية من الانتفاضات المسلحة المحدودة ... ولم تكن خالية من روح المقاومة . "[12]"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
[1] ) رأفت الشيخ : تاريخ العرب المعاصر , عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية , ط1 , القاهرة , 1995م , ص 131 . * ) القرصنة : السطو على البحار راجع / المعجم الوسيط : الجزء الثاني , مطابع الأوفست , ط 3 , القاهرة , 1985م , (قرص ) , ص 754 . [2] ) رأفت الشيخ : المرجع السابق , ص 131 . [3] ) أحمد حمروش : ثورة 23 يوليو , ج ا , الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة , 1992م , ص 988 . [4] ) رأفت الشيخ : المرجع السابق , ص 131 . [5] ) نفس المصدر , ص 131 ـ 132 . [6] ) صلاح العقاد : المغرب العربي ( دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة ) , القاهرة , 1980 م , ص 85 . [7] ) أحمد حمروش : المرجع السابق , ص 988 . [8] ) عطية القوصي وآخرون : الحضارة الإسلامية وتاريخ العرب الحديث , وزارة التربية والتعليم , دار التوفيقية للطباعة , القاهرة , 2007م , ص 179 . [9] ) جاد طه : محاضرات في تاريخ العرب المعاصر , جامعة عين شمس , القاهرة , 1991 م , ص 215 . [10] ) نفس المصدر , ص 166 ـ 167 . [11] ) أحمد حمروش : المرجع السابق , ص 993 . [12] ) نفس المصدر , ص 993 .